يتواتر الحديث عن السلام في اليمن، في لحظة تغرق فيها البلاد في ظلام كثيف من فقدان الأمل وتعاقب الويلات. ومع كل جهد دبلوماسي ترتفع وتيرة المواجهات. فالحرب لم تهدأ منذ فبرير 2021 على الأقل على مشارف مأرب التي بذل فيها الحوثيون جل جهدهم في محاولة للظفر “بنفط وتمور” هذه الواحة التي أصبحت مأوى لكثير من اليمنيين.
وفي المحصلة امتدت خارطة المواجهات لتدخل ما تبقى من مديريات البيضاء في سبتمبر 2021، ثم مديريات شمال غرب شبوة، والتي استعيدت مؤخرًا على يد قوات العمالقة.
وتمتد في هذه الظروف رقعة المأساة اليمنية المجسدة في نزوح متكرر وأوضاع إنسانية بالغة الحرج في مناطق المواجهات في وسط البلاد. ويظهر جليًا أنه من أجل تحقيق سلام من الضروري إعادة تعريف أولويات العمل في اليمن، سيما والأنظار تنحو عن الاهتمام بالاقتصاد في فصل غير مفهوم بين أوجه الاستقرار والسلام ومعالجة الوضع الإنساني.
ومن تلك الأولويات، بعد أن ظهرت تناولات كثيرة للجذور السياسية والجيوسياسية، بل الاجتماعية للحرب، البحث في الجذور الاقتصادية، لتكتمل بذلك الصورة في فهم ما حدث ويحدث. والصورة لن تكتمل إلا بتناول شامل يربط بين الأبعاد، ولا يعتمد بعدًا واحدًا في التفسير، وبالتالي في تحديد منفذ التدخل الدبلوماسي أو الإغاثي.
في حقيقة الأمر، 7 سنوات من التدخل المتعدد الأوجه، لم تقد إلى نتيجة. بل تتعاظم المأساة اليمنية. لذا ينبغي وضع الاقتصاد في قلب الاهتمام. وعليه ينبغي أيضًا إعادة تحديد الفاعلين المطلوبين للعمل في رؤية تربط بين الإنساني والتنموي، وإشراك القطاع الخاص كفاعل مسؤول، إلى جانب فواعل اجتماعية وسياسية.
إحدى البديهيات المكررة هي أن اليمن واحد من أفقر بلدان المنطقة. كانت هذه مسلمة افتتاحية في كل التقارير الدولية عن اليمن. وكانت من باب قرع جرس الإنذار، فماذا يمكن أن نقول اليوم عن اليمن في ما يخص حالة الفقر؟ سيما وقد انهارت مقوماته الاقتصادية كتراجع في مداخيل الحكومة، وعدم صرف الرواتب بانتظام، وانهيار للعملة المحلية، وفقدان العمالة اليمنية في الخارج أعمالها بسبب جائحة كورونا، وبسبب سياسيات توظيف إقليمية فيها من الأنانية وقصر النظر الكثير، بل أصبح الرأسمال المحلي ميدانًا للمعارك السياسية المميتة، كما اتضح في التهم التي تضمنها تقرير لجنة العقوبات الأممية على عدد من الشركات المحلية، ثم تراجع عن هذه التهم لاحقًا.
أن النشاط الحقوقي انغمس في المقاربة الجيوبوليتيكية في تناوله للحالة اليمنية، وحاد عن الدفاع عن حقوق الملكية والحق في الراتب وحق الاتجار والتنقل، وأغفل في تقاريره مصادرة الملكية أو التفليس والاستحواذ غير القانوني وإتلاف الممتلكات وقصف المنشآت الصناعية
أمام تحذيرات تداعي الاقتصاد، والأرقام التي تشير، ولو تقديريًا، إلى خسائر اليمن اقتصاديًا في ظل وبسبب بالحرب، كانت هناك تفاعلات خجولة دوليًا. مايزال النظام النقدي في البلاد منقسمًا، والحكومة عاجزة عن توفير الخدمات وإدارة الموارد. وبهذا تنزلق البلاد إلى المنظماتية ONGisation، حيث يوكل البلد إلى منظمات لا يمكن تطبيق التشريعات المحلية عليها، ولا إخضاعها للمساءلة القانونية والرقابة الشعبية، وهي بطبعها التكوني منفصلة عن المسؤولية الوطنية. فعملها المؤقت لا يؤسس لقدرات محلية، أو يرفع من إمكانية مواجهة الفقر بأعمال إنتاجية واستدامة مشاريع مدرة للربح، أو حتى تشغيل العجلة الاقتصادية للبلاد في مناطق بعيدة عن المواجهات. هناك الكثير من الدعاية، ولكن القليل من التراكم والنتائج. بالتالي يتطاول غياب الشفافية من الفاعل الحكومي المدموغ بسوء الإدارة وقصور آليات مكافحة الفساد إلى عمل الفاعلين غير الدولتيين أيضًا.
أضف إلى ذلك، أن النشاط الحقوقي انغمس في المقاربة الجيوبوليتيكية في تناوله للحالة اليمنية، وحاد عن الدفاع عن حقوق الملكية والحق في الراتب وحق الاتجار والتنقل، وأغفل في تقاريره مصادرة الملكية أو التفليس والاستحواذ غير القانوني وإتلاف الممتلكات وقصف المنشآت الصناعية والقيود المفروضة على الأعمال وقيود حق الاتصال والتواصل. انقطعت اليمن كليًا عن العالم بسبب دمار لحق بمنظومة الاتصالات، ولم يتحرك ساكن لأحد.
ماتزال النظرة قاصرة في تشخيصها للحالة اليمنية، وهي تشخص بصرها إلى حرائق الحرب، بينما هناك حرب أكثر ضراوة تعتمل في الاقتصاد وفي لقمة الناس.
في سنوات الحرب هذه، خرجت أموال كثيرة من البلاد، لكنها كانت عرضة للابتزاز واللطش في بلدان عديدة. والتاجر المتنقل يدرك الآن أكثر من أية لحظة ماضية، أنه بدون وطن سيواجه المتاعب، ويصبح لقمة سائغة لحيتان أكبر منه
شخصيًا، أعجز عن تصور نجاعة طرق معالجة الأزمة الغذائية في اليمن، دون تعزيز القدرة على إيصال الغذاء والسلع الأساسية من خلال توفير العملة الصعبة وتذليل صعاب الاستيراد. وقبل هذا تفعيل الموارد العامة، ودفع رواتب الموظفين، وإعادة تقييم المعيشة حتى يتمكن الناس من شراء ما يحتاجونه من سلع. كما لا يمكنني تصور بناء سلام دون تعضيد لقدرات مؤسسية للدولة تنهض بمتطلبات السلام.
لفتت انتباهي زيارة وفود دبلوماسية إلى عدن، وذهابها إلى منشآت خاصة: صوامع الغلال ومطاحن ومنشأة إنتاجية تابعة لمؤسسة تجارية يمنية. وهي بهذا تعيد إشراك القطاع الخاص في عملية السلام. في الحقيقة القطاع الخاص مدعو أيضًا إلى تحمل مسؤوليته الاجتماعية والأخلاقية في هذه المرحلة الحرجة من حياة اليمنيين، من خلال عدم التسريح المتعمد، ومراعاة الناس في أسعار السلع الغذائية، ودعم مشاريع خيرية… إلخ.
نعم، تزدهر طبقة من تجار الحروب لا تنظر إلا إلى الربح على حساب قوت وحياة المواطن. إلا أن التاجر الفطن هو الذي يرعى اندماجه في بيئته، ويستشعر مسؤوليته، ويحرص على صورته في أذهان العامة. هناك مبادرة للقطاع الخاص محمودة ينبغي تشجيعها وترغيب رؤوس أموال في الحذو حذوها.
في سنوات الحرب هذه، خرجت أموال كثيرة من البلاد، لكنها كانت عرضة للابتزاز واللطش في بلدان عديدة. والتاجر المتنقل يدرك الآن أكثر من أية لحظة ماضية، أنه بدون وطن سيواجه المتاعب، ويصبح لقمة سائغة لحيتان أكبر منه. هذا لأن انهيار البرجوازية من خلال أولًا، انهيار أخلاقها وتهافتها على الربح ولو سرقته من أفواه الأطفال، ثانيًا، انهيار ظروف عملها وتحولها إلى هدف للجماعات المتقاتلة، هو فتح لذهنية الحرب المستدامة.
نحن بحاجة ماسة إلى اقتصاد السلام، ويتكرس من خلال مقاربة إدارية جديدة في المنشأة الاقتصادية الكبيرة والصغيرة، تضع الإنسان في قلب اهتمامها، متخلية عن الجشع وبلوغ الربح بلا مسؤولية اجتماعية، ولكن في سياق الحرب نحتاج إلى جانب تحييد الاقتصاد عن المواجهات والصراع، إشراك القطاع الخاص في وضع تصورات السلام، وتعزيز قدرة البلاد الإنتاجية لتفعيل الأعمال وتوفير استقلالية معيشية لليمنيين تساعدهم في الاضطلاع بمهام الغد، وحتى لا تفرغ البلاد من مواردها وثروتها، فتفقر أكثر مما هي عليه.