تبدو اتهامات سلطنة عمان بدعم الحوثي مستفزة جدًا، خصوصًا أنها نهضت مؤخرًا في وقت واحد، وأحيانًا بخطاب فيه من العنف والابتذال الكثير. بل إن ظهور هذه الاتهامات صوتيًا من خلال مساحات صوتية عبر منصة “تويتر”، بكثير من الانفعال، وليس بكتابات فاحصة فيها تسلسل منطقي ومعلوماتي، هو اللافت للنظر.
لكن ردود بعض العمانيين ركيكة في أحيان كثيرة، إذ تشدّد على فكرة الحيادية، وأن سلطنة عمان بلد مفتوح لكل اليمنيين لا يفرق بين حوثي أو مناصر للشرعية. وهذا لا يكفي لتفسير ما يجري، خصوصاً وأن هناك حرصًا على إيضاح حق عُمان في اتخاذ سياساتها الخارجية التي تراها مناسبة لها وترعى مصالحها. وربما هذه الفكرة الأخيرة هي مدخلنا لفهم الموقف العماني.
فسلطنة عمان لا تمتلك ترف الحياد في الشأن اليمني، وذلك لعدة أسباب:
إن الصراع في اليمن يخرج من إطاره المحلي إلى إطار إقليمي يتجاوز حتى دول الخليج عينها. والشبكة المعقدة التي يجلس عليها الصراع اليمني، تخلق بالضرورة محاور وتحالفات إقليمية.
وعليه، وثانيًا، فإن الصراع اليمني يمتد إلى المساس بالمصالح الحيوية العمانية، وكونه قد ولّد تبعات، وصار جوارها المباشر في اليمن مسرحًا للصراع المحلي وللصراعات الإقليمية. وهذه حالة ذهبت فيها بعض الأقلام اليمنية إلى شرعنة أي تدخل عماني في محافظة المهرة، باعتبار تحوّل المهرة إلى ميدان صراع محلي مدعوم إقليميًا، يمس حضورها المباشر هناك، وارتباطاتها الاجتماعية والاقتصادية، ومخاوفها من الحضور السعودي والإماراتي، في تسويغ لتقسيم النفوذ في اليمن بين دول الإقليم.
إن هناك انقسامًا في البيت الخليجي، يسبق ويواكب، وربما يمتد إلى ما بعد الصراع في اليمن. وهذا الانقسام ينعكس على الشأن اليمني من خلال تباين المواقف والتفاعل والأفعال تجاه أطراف الحرب أو أهدافها أو مجرياتها، ويمكن الاستشهاد بسهولة إلى الممارسات الإعلامية الإقليمية، خصوصًا داخل دول الخليج، تجاه الحدث اليمني.
لكن الحقيقة اليمنية الفاضحة هي أن الوضع في اليمن يغري كل قوة إقليمية، بل كل دولة حدودية، في التدخل، خصوصًا في حالة انقسام القوى المحلية، وتهافتها على عطاءات الخارج، وتحول المشهد السياسي اليمني، بل الحرب عينها، إلى وسيلة تربح وحروب بالوكالة دون مرجعية وطنية فعلية حاكمة، عدا التشدق بالوطنية، وكيل تهم العمالة للآخرين. لهذا تتحرك الدولة إما لمد نفوذ جديد، أو تعزيز نفوذ قائم، وذلك بتجاوز الأطر القانونية للتعامل الثنائي والبحث عن فاعلين محليين غير دولتين: استنبات زعامات محلية، واستصناع مليشيات، وفرد وسائل نفوذ ناعمة إعلامية وحقوقية… إلخ.

هناك انقسامًا في البيت الخليجي، يسبق ويواكب، وربما يمتد إلى ما بعد الصراع في اليمن. وهذا الانقسام ينعكس على الشأن اليمني من خلال تباين المواقف والتفاعل والأفعال تجاه أطراف الحرب أو أهدافها أو مجرياتها، ويمكن الاستشهاد بسهولة إلى الممارسات الإعلامية الإقليمية، خصوصًا داخل دول الخليج، تجاه الحدث اليمني.


نعم هناك فراغ قوة وفراغ سلطة في اليمن، والقاعدة المعروفة في السياسة الدولية هي ميل الدول إلى ملء الفراغ. لا تستقيم السياسة الدولية بالعواطف فقط، ولا بالكلام اللين. فليس أجمل من الكلام اللين المتبادل بين قيادات دول الخليج في ما بينها، لكن هذا لم يحل دون تصدع هذه العلاقات وصل إلى المقاطعة التي انفرجت تدريجيًا بعد قمة العُلا.


هناك دوافع وجود ونفوذ هي التي تحدد التفاعل بين الدول.
إلى ذلك، تتواتر تقارير وأخبار صحفية تتحدث عن وصول أسلحة إيرانية إلى الحوثي عبر التهريب المار بالحدود اليمنية العمانية، بل ذهبت تقارير أممية إلى تأكيد انخراط شركات وأفراد في سلطنة عمان بمد الحوثيين بمعدات للاستخدام العسكري. وبعيدًا عن الآلة الحربية، فإن انخراط شركة عمانية للاستثمار في مجال الاقتصاد في حقل الاتصال في شركة تقع وتدار من مناطق الجماعة الحوثية، في صفقة يلفها الغموض، هو دليل على عدم الحياد. يقيننا هو أنه لا يمكن لشركة عمانية أن تتصرف خارج الخطوط العريضة للسياسة الخارجية العمانية. والحال كذلك مع شركات خليجية أخرى، ومع وسائل إعلام خليجية أخرى.

سؤال تعجيزي يضعه بعض المجادلين العمانيين، هو: كيف يمكن لمعدات عبرت عُمان أن تصل إلى الحوثيين من المهرة إلى صنعاء، مرورًا بحضرموت ومأرب، حيث الشرعية والتحالف؟ وهو سؤال غير وجيه لمن يعرف طبيعة تشتت ومحدودية الحضور العسكري للتحالف في اليمن، وتوزيع القوى العسكرية والأمنية اليمنية المترهلة ومتعددة الولاء


هناك سؤال تعجيزي يضعه بعض المجادلين العمانيين، هو: كيف يمكن لمعدات عبرت عُمان أن تصل إلى الحوثيين من المهرة إلى صنعاء، مرورًا بحضرموت ومأرب، حيث الشرعية والتحالف؟ وهو سؤال غير وجيه لمن يعرف طبيعة تشتت ومحدودية الحضور العسكري للتحالف في اليمن، وتوزيع القوى العسكرية والأمنية اليمنية المترهلة ومتعددة الولاء والمنقسمة حول نفسها في مصفوفة من النكايات وغير الخاضعة لتقييمات وقيم مهنية. ويمكن مقابله أن نضع سؤالًا آخر، هو: كيف تصل أسلحة إلى قلب أوروبا ذات النظم الأمنية الحديثة ووسائل المراقبة التقنية والمادية الكبيرة؟ بل كيف تصل المخدرات إلى كل زقاق في مدن أمريكا الكبيرة؟
في حقيقة الأمر، لا يمكن وصف الموقف العماني بالحياد. إنما بموقف متعدد الوجوه تحكمه مصالح الدولة والظرفية الجيوسياسية للصراع اليمني.
نعم، من ناحية، سلطنة عمان بلد مفتوح لكل اليمنيين بكل مشاربهم وطوائفهم، وتتعامل مع اليمنيين معاملة حسنة في ظل الحرب أو قبلها. على الأقل لم نسمع عن معاملة سيئة لحقت بالعاملين اليمنيين في السلطنة كما هو الحال مع بلدان خليجية أخرى. كما أن لها دورًا في وساطات للإفراج عن معتقلين ومحتجزين محليين وأجانب لدى الحوثي، وكذلك تستقبل الكثير من الجرحى، وتقدم لهم تسهيلات ثمينة.
ثم إن عُمان، في الوقت الحالي، هي الشريان الرئيس للإمداد بالسلع، ومنفذ بري للمواطنين اليمنيين، بعد التضييق على المنافذ البرية والجوية والبحرية اليمنية. لكن موقفها من الحرب في اليمن أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه موقف يقوم على منطق رخو، إذ يقتصر على التأكيد على أهمية الحل السياسي ودعم جدوى العمل العسكري، وأن الحوثي يمني لا ينبغي تصنيفه إرهابيًا، ونتفق معها في هذا جزئيًا، خصوصًا بعد تقييم العملية السياسية خلال 7 سنوات، ومعرفتها الحقيقية لمعرقل الحل السياسي في اليمن. نعم الحوثي يمني، وكذلك أي عضو يمني في جماعة إرهابية متطرفة أخرى. فهذا لا ينفي يمانيته، لكن أفعاله هي التي تحدد ما إذا كان إرهابيًا أم لا. نتوقع أن موقف السلطنة من عدم تصنيف الحوثي يقوم على مقاربتها من الدول الخليجية الأخرى في انقسام البيت الخليجي عينه، وما أفرزه من محاور وتحالفات، لا بالنظر إلى أفعاله بحق الشعب اليمني أولًا. وإذا كان من حياد مطلوب، فهو حياد تجاه المعايير السياسية الناظمة للعلاقات الدولية، والمتمثلة بالتمسك بشرعية النظام السياسي، وسلامة البلد تربةً ونظامًا. وهنا يكون المنقلب كيانًا غير شرعي يتوقف التعامل معه في حدود تيسير العملية السياسية، دون غض النظر عن جرائمه بحق المدنيين والحريات العامة والخاصة، أو وصمه بالمنقلب.
على المدى القصير، تبدو السلطنة العمانية رابحة من الصراع في اليمن، لأنها تحولت إلى بديل موضوعي للإمكانيات الاستراتيجية اليمنية التي كان يمكن لليمن أن تمنحها لكل من الصين والسعودية. وهذا موضوع يطول الحديث عنه، وليس مجاله هنا. كما أن الدور العماني إجمالًا لا يتعارض كليًا مع سياسة المملكة العربية السعودية في اليمن، التي ترغب بوجود قناة تواصل خلفية مع الحوثيين. إلا أنه عندما يصل إلى إلحاق الضرر بالمصالح الإقليمية، كما هو واضح من وراء حصول الحوثي على معدات عسكرية مكنته من قصف أهداف في الإمارات، فإن حملة إعلامية ستظهر لتقليم دور السلطنة الضار.

كاتب وباحث في الشؤون السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.