على أية حال، فالحروب حالات استثنائية ومسار غير طبيعي لحالة المجتمعات البشرية، باعتبار السلام هو الحالة الطبيعية دائمًا، ومثل هذه المقولة، المكثفة في علم الاجتماع السياسي، قد يقول البعض، إنها لا تنطبق على الوضع والسياق في اليمن، وأن الحرب اليمنية لم تعد سوى حالة طبيعية، والسلام في اليمن هو الحالة الاستثنائية. ومثل هذه المقولة قد يتفق عندها البعض، وقد يختلف حولها البعض الآخر، باعتبار تاريخ الدولة والمجتمع في اليمن، وتاريخ الحرب والسلام أيضًا.
الأطراف الإقليمية؛ إيران والسعودية والإمارات، في هذه الحرب، هي الأكثر قدرة على التأثير بمسار هذه الحرب، ومن ثم نتائجها، ومكانها وزمانها، ويتغافلون تمامًا، عن البعد الداخلي
إن الحرب اليمنية في منظور الكثير من المراقبين غدت حربًا غير يمنية ولا وطنية، من منظور هذا المراقب الخارجي الذي يرى أن الأطراف المتدخلة في هذه الحرب هي الأكثر قدرة على التأثير وحرف مسار هذه الحرب عن طبيعتها، وتغليب البعد الإقليمي والدولي فيها، والتي يتم تجاوز بعدها الداخل والوطني، مما يسهم كثيرًا في تجاوز أسبابها الحقيقية، وبالتالي من وجهة النظر هذه، غدت حربًا خارج كل الحسابات الداخلية.
ينطلق أصحاب هذه المقاربة من فرضية أن الأطراف الإقليمية؛ إيران والسعودية والإمارات، في هذه الحرب، هي الأكثر قدرة على التأثير بمسار هذه الحرب، ومن ثم نتائجها، ومكانها وزمانها، ويتغافلون تمامًا، عن البعد الداخلي، وطبيعة الفواعل التي تقوم هذه الحرب على عاتقها، وبخاصة في ما يتعلق بتاريخية الأزمة والصراع وأسبابها وجذورها، هذه الحقيقة التي تحول كل المقاربات إلى أشبه بنكتة لا تضحك حتى من ابتكرها.
فمثل هذه المقاربة، تغفل تمامًا، البعد الحقيقي للحرب الكامن في أسبابها وجذورها، وهو بعد رئيسي، يتعلق ببعد الصراع التاريخي والاجتماعي والعقائدي، وتحولاته الوطنية والسياسية والثقافية خلال الخمسين سنة الماضية، من سقوط الملكية وقيام الجمهورية كمحصلة نضال يمني طويل في سبيل الخلاص من فكرة الإمامة كبعد عقائدي طائفي لا تنسجم فكرتها مع طبيعة المجتمع اليمني مطلقًا، بالنظر إلى تاريخ الصراع الطويل بين هذه الفكرة والمجتمع اليمني عمومًا.
صحيح أن فكرة الوطنية اليمنية والدولة اليمنية الحديثة، هي فكرة حديثة نسبيًا لا تتعدى السبعة العقود الماضية، لكن دوافع تشكل هذه الفكرة وبواعثها، ربما هي الأكثر حضورًا يمنيًا من غيرها من المجتمعات العربية الأخرى، لطبيعة الصراع القائم بين اليمنيين وهذه الأفكار الشوفينية القديمة التي تتعامل مع المجتمع من منظور موت الصيرورة التاريخية في تشكيل مفاهيم الحداثة السياسية كالدولة والجمهورية والديمقراطية والدستور وغيرها من المفردات التي تتناقض تمامًا مع فكرة الإمامة الزيدية.
فكرة الوطنية اليمنية والدولة اليمنية الحديثة، هي فكرة حديثة نسبيًا لا تتعدى السبعة العقود الماضية، لكن دوافع تشكل هذه الفكرة وبواعثها، ربما هي الأكثر حضورًا يمنيًا من غيرها من المجتمعات العربية الأخرى
ومن هنا، فإن المنظور الخارجي للحرب اليمنية، يبقى منظورًا قاصرًا، وعاجزًا في تصوراته للحرب والسلام معًا، مما يفسر لنا كل هذا الفشل في المقاربة الأممية والإقليمية والدولية للحرب والسلام على مدى 7 نسوات مضت، وجولات عديدة من المباحثات التي تنتهي من حيث تبدأ، كمرحلة تجريب واختبار للأفكار والنوايا، وهو من وجهة نظري فشل ذريع ولن يصل لأي حلول في ظل الاستمرار بنفس الآليات والأفكار والمقاربات القاصرة والمشوشة.
الغريب في الأمر اليوم، لماذا كل هذا الإصرار من قبل المجتمع الدولي، على تكرار نفس المسار ونفس الأفكار والمقاربات للوصول إلى حلول ونتائج إيجابية، رغم ما أثبتته كل المحاولات السابقة والمستمرة من فشل؟ باعتقادي، أن مثل هذا الإصرار الدولي، يكشف لنا جانبًا من طبيعة هذه الحرب، وهي الحرب التي يحاول كل طرف من الأطراف الدولية والإقليمية توظيفها في سياق مصالحه، بعيدًا كل البعد عن مصلحة اليمنيين أنفسهم.
والأخطر أيضًا، هو أن ثمة نخبًا يمنية عديدة، تطبعت اليوم مع هذا الإصرار الدولي على إطالة أمد هذه الحرب، من خلال تخليق مقاربات أقل ما يقال عنها أنها غبية وسطحية وساذجة، يحاولون من خلالها رسم مستقبل البلاد وفقًا لمصالحهم وأدواتهم، ولا يلقون أي بال لمصالح الشعب اليمني، وطموحاته، وتصوراته للحلول والمقاربات التي تحفظ لهم بلادهم، وتحمي مصالحهم، وتنصف تضحياتهم، وتثمنها في مصفوفة المكاسب التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لدى الأطراف الدولية كلها.
لكن المراقب لطبيعة المقاربات الدولية هذه، في هذا السياق، يهاله حجم المغالطات والأكاذيب التي يتم ترويجها باعتبارها تصورات سياسية مقبولة أو يجب أن يقبل بها اليمنيون، وذلك باعتبار أنها مقاربات معطوبة تقفز فوق جملة حقائق، في مقدمتها أُس الأزمة، وهي الفكرة الإمامية التي فجرت كل هذا الصراع، ودفعت المجتمع اليمني مرة أخرى إلى حالة الحرب، بعد أن كان على وشك الوصول إلى مربع السلام الدائم من خلال معادلة الدولة وعقدها الاجتماعي الذي يجب أن تقوم عليه هذه الدولة.
أما اليوم، وفي ظل حالة التسطيح المهولة، والتجريف لكل الحقائق المتعلقة بهذه الحرب، فيتم ترويج مقولة أن السلام يجب أن يحل بين كل الأطراف اليمنية، باعتبار أن الجماعة الانقلابية، يجب أن تكون جزءًا فاعلًا ورئيسيًا في أية معادلة سياسية قادمة، بل تكون هذه الجماعة على رأس أية معادلة سياسية يسعى لها أي حل سياسي قادم، بمعنى هو تطييف المجتمع، وضرب فكرة الاجتماع السياسي الدستوري، ونسفه بنسف كل ثوابته الوطنية، وهي الجمهورية والديمراطية والوحدة، وذلك من خلال إبقاء جماعة الحوثي كجماعة مهيمنة ومعطلة للإجماع السياسي الوطني، بل تحويل زعيمها لمرشد للدولة والمجتمع كنسخة لما هو عليه الحال في إيران والعراق ولبنان.
ومن هنا يدرك اليمنيون اليوم جيدًا، هذا المسار الذي يُراد أن يدفعوا نحوه دفعًا، وأنه لا يجب أن يمضوا نحوه مكرهين، ولا يمكن أن يسمحوا بأية محاولة تمضي بهذه الاتجاه، وذلك لأنهم أصبحوا اليوم أكثر وعيًا بهذه المسارات المخاتلة، لإدراكهم المبكر حقيقة ووظيفة وطبيعة ما تقوم به جماعة الحوثي، باعتبارها ورقة وظيفية استُخدمت لضرب فكرة الإجماع الوطني اليمني، وضرب فكرة الانتقال السياسي الذي كان يسعى اليمنيون نحوه، وعلى وشك تحقيقه من خلال مؤتمر الحوار الوطني ومخرجاته ومسودة الدستور الذي كان يمهد الطريق لانتقال سياسي دستوري حقيقي آمن.
ختامًا، يدرك اليمنيون أيضًا، اليوم، أن ما يُعتمل في الداخل اليمني من خلال هذه الحرب، ومن خلال الكيانات التي يتم دعمها ورسم مساراتها بهذه الطريقة، كلها تؤدي إلى نسف فكرة الدولة اليمنية، وتبقي اليمن عاجزة عن أن تكون دولة حقيقية، وإنما مجرد جغرافيا مختطفة ومفككة، من خلال هذه الجماعات والمليشيات، التي يتم تمويلها والتحكم بها وتوظيفها من خارج الحدود، ولهذا يحضر اليوم الوعي السياسي اليمني وبقوة، من خلال إعادة تعريف هذه الحرب بأنها حرب يمنية لاستعادة الدولة والمجتمع والسيادة والشرعية، وأن كل ما علق بهذه الحرب بفعل التدخلات الخارجية، لن تغير من هذه الحقيقة شيئًا.