في “حافة إسحاق”، نرجع مع عبدالرحمن بجاش، إلى تعز لحظة انعتاق اليمن من ربقة الإمامة، وإلا ما بعد جراح الارتداد العنيف عن الآمال والتطلعات التي فجرتها ثورة 26 سبتمبر.
لقد سجل سنوات التحول ورواها بقدر ما التقطت عيناه من الصور، وفي حدود المساحة الجغرافية التي عرفها، وفيها اختصرت فرحة الشعب ونضاله وتضحياته في عقد الستينيات الفوار.
وهو لا يطوف المدينة كلها، فباستثناء إشارات عابرة لحارة الظاهرية وسجن الشبكة وجامع المظفر ودار الناصر، لا يأخذك إلى تعز القديمة، حاراتها ومساجدها وميدانها الشهير وأسرها العريقة. سيذكر القاضي عبدالجبار المجاهد الذي كان يتردد على والده، ويستشهد بكتاب محمد محمد المجاهد “تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي”. وحين يذهب إلى عقبة مفرح لا يمضي إلى أزقة حارة المستشفى الجمهوري، أو ينحرف يمينًا إلى وادي المدام. وفي جولاته بشارع 26 سبتمبر يتوقف عند عمارة الغنامي، ولا يصعد العقبة. فقط إلى العرضي قليلًا دون الجحملية، رغم أنه عبر الشارع الذي يشقها إلى عليا وسفلى خلال دراسته الأول الإعدادي بمدرسة الكويت.
هناك في حافة إسحاق، وعلى الناحية الأخرى، جوار المقبرة، وفي شوارع سبتمبر وعصيفرة والتحرير، قدم طيفًا واسعًا من الناس، المشاهير والمغمورين، المشايخ والأخدام، رجال الدين ورجال السياسة، التجار والغلابة، المثقفين، وطيفًا من الناس. في الباب الكبير رأى أكثر الضباط الذين مروا من هناك، ثم أصابتهم الشهرة يوم تقلدوا مناصب عليا في الإدارة الحكومية وفي القوات المسلحة.
وفي شارع عصيفرة توقف عند عمارة الرماح، حيث مقر التعبئة والتجنيد لجيش الثورة. إلى هناك توافد الشباب لتلبية صوت الجمهورية العربية اليمنية، تركوا وظائفهم في عدن، ومزارعهم في القرى، وجاؤوا للالتحاق بالحرس الوطني، ومنه إلى ألوية المشاة والمدفعية والصاعقة والمظلات. وقد أتى على أسماء بعض من عرفهم وتابعهم في المعسكرات التي انخرطوا فيها، حتى المصائر التي انتهوا إليها.
ولأن المصائر تحددت في صنعاء وما حولها، فسوف نمضي معه إلى هناك، ونقول إنه طاف وشاف، حلق وحدق وصور واختزن. لقد أحصى أبواب المدينة وحاراتها وأسواقها وبساتينها ومساجدها وسبل الماء فيها. وخارج الأسوار صور شارع علي عبدالمغني بكل تفاصيله، أسماء الدكاكين والفنادق والمطاعم والمباني العامة والخاصة، وكاد يحصي الناس الذين مروا من الشارع والشوارع المجاورة. ثم خرج إلى قاع اليهود، وإلى الجبال والوديان التي ستتمدد المدينة فيها.
لعل عبق صنعاء أسره بأكثر مما تركت تعز في وجدانه، أو أن تخطي الطفولة والصبا إلى الشباب والكهولة، حرره من الخوف، ودفعه إلى اقتحام المجاهيل.
شارع علي عبدالمغني ضاج وحافل. كذلك باب اليمن كما لو أن التاريخ مر من هناك في زهوه وصعوده وفي خيبته وانكساره. هناك روائح الرجال الذين سطروا البطولات الاستثنائية في الدفاع عن الثورة، خصوصًا في فك الحصار عن صنعاء أثناء ملحمة السبعين
شارع علي عبدالمغني ضاج وحافل. كذلك باب اليمن كما لو أن التاريخ مر من هناك في زهوه وصعوده وفي خيبته وانكساره. هناك روائح الرجال الذين سطروا البطولات الاستثنائية في الدفاع عن الثورة، خصوصًا في فك الحصار عن صنعاء أثناء ملحمة السبعين، ومن بعدها الحرب الطائفيه -لم يعطها هذا الوصف- في أغسطس 1968، واغتيال البطل الأسطورة عبدالرقيب عبدالوهاب، وما جرى لرفاقه الذين تعرضوا للإخفاء القسري أو دخلوا السجون أو عاشوا حياة التشرد والضياع، مجانين ومضطربين نفسيًا ومتسولين وبؤساء انكفؤوا على أنفسهم إلى أن وافاهم الأجل. هكذا يقول: “حتى منهم من مات ومرض وأهين مثل صاحب شارع الجمهورية أو الموت، صاحب أديم، هائم محمد سعيد، الذي انتهت حياته في قريته وهو يتبول على نفسه”.
ويتحسر عبدالرحمن بجاش على ضياع الوثائق الخاصة بعبدالرقيب عبدالوهاب، وبالمقاومة الشعبية. الأولى كانت في حقيبة حديدية التي يستخدمها الجنود، وقد سلمتها أسرة عبدالرقيب، بعد مقتله، لأحدهم، حيث وعد بكتاب عنه، لتضيع الوثائق، ولا يظهر الكتاب. لقد سلمها لمحمد خميس “ليسلم رأسي”. ليت عبدالرحمن يفضح ذلك الرجل الرديء، ويكتب اسمه في الطبعة القادمة لـ”لغلغي في صنعاء”، ذلك أنه لو كان الخوف وليس الخيانة لاعتذر من البداية، ولم يتسلم الوثائق . وأما وثائق المقاومة الشعبية فقد دفنها سيف أحمد حيدر، يرحمه الله، في حفرة في الصافية، ثم قام في المكان مبنى، وضاعت الوثائق إلى الأبد.
الناس عندهم حق، لكن أنا وأصحابي مش بلاطجة، كنت في الصاعقة جنديًا مقاتلًا برتبة نقيب، قتلت مع عبدالرقيب حتى أصبت، أدخلت المستشفى وعولجت، وعدت إلى عيبان حتى أصابتني قذيفة شلت ساقي
ولا يتحسر عبدالرحمن، وإنما يكاد رأسه ينفجر لاختفاء صور أبطال القوات المسلحة من فترينة أحد الاستديوهات (بخاصة من الصاعقة والمظلات والمدفعية والمشاة وألوية الثورة والنصر والعروبة). اختفت الصور، وذهب إلى صاحب الاستديو يسأله عنها وعن الأفلام، قال هائل: “أخي خاف، فجمع الأفلام والصور، وحفر حفرة في الصعدي، وبقليل من البنزين أحرق كل شيء”، يتابع عبدالرحمن: “أحسست أن رأسي سينفجر، وتركته دون أن أنبس بكلمة”.
كثيرًا ما تطفح الدموع في المآقي وأنت تقرأ. مثلًا شلة المعاقين بقيادة الأعور، يلعبون الثلاث ورقات، فيتحلق حولهم بعض الريفيين، يكسب الواحد مرة أو مرتين، ثم يخسر كل ما في جيبه، غير أنه لا يمكن أن يكسب وينصرف، فهؤلاء جنود بطاشون رغم الإعاقة. كان عبدالرحمن بجاش يخافهم، فظهر له الأعرج مرة فجأة، وطلب منه روتي، فأعطاه وامتنع عن قبض الثمن “لاحظت الدمعة تترقرق في عينيه: “أنا يا بجاش مش بلطجي.. قلت خائفًا من قال؟”، يتابع على لسان الأعرج: “الناس عندهم حق، لكن أنا وأصحابي مش بلاطجة، كنت في الصاعقة جنديًا مقاتلًا برتبة نقيب، قتلت مع عبدالرقيب حتى أصبت، أدخلت المستشفى وعولجت، وعدت إلى عيبان حتى أصابتني قذيفة شلت ساقي. والآن كما ترى نزيد على المساكين أمثالنا”. يقول: “مسح دموعه بيده.. تناول عكازه ومضى”.
بعد زمن طويل يعود إلى باب اليمن، حيث عمل في مخبز والده، فيجد المكان قد تغير، أقفلت محلات وفتحت أخرى، اختفت لوحات وقامت مكانها ثانية، ذهب رجال وجاء رجال، لكنه يعثر على رجل يعرفه.. الحيمي ضابط سابق في سلاح المشاة.. يسأله: “تذكر الصور التي كانت وراء الزجاج وداخل الدواليب لأبطال الجيش؟”.
“آه يا صاحبي، كم أبكي على الرجال والصور، عمك هائل ضيعهن، خاف”.
يظهر الآخر “الفرتاج” جندي قاتل في السبعين، ثم اعتقل، يسأله: “أين أنت؟”.
“آه يا صاحبي، شردنا، حتى الكدم أخذوها.
- والآن؟
- كما ترى على هذا التكسي”.
آثرت أن أنقل الحوار مختصرًا. لو لخصته بلغتي لجاء ميتًا لا نبض فيه ولا حياة. ولو أوردته كما كتبه لشغلت حيزًا واسعًا. والحق أنه يصعب إعادة رسم الصور إلا بالقلم نفسه وبالريشة ذاتها. لكأني أدعو القارئ إلى قراءة “حافة إسحاق” و”لغلغي في صنعاء”، ثم لا أزيد.
في الكتابين صور كثيرة يذرف لها الدمع، وصور أخرى يضحك لها المرء حتى ينسكب الدمع أيضًا.
رفيق الطفولة الذي يسكن معهم البيت، أعاره الشميز، ثم عيره، أخذته العزة، رمى الشميز، وترك البيت والمدرسة والمدينة “بعد سنوات التقيت العم درهم في صنعاء، سألته عن صاحبي، قال مبتسمًا برضا: صاحبك مات.. دارت بي الدنيا”.
حسين هجوان الذي يغيب أشهرًا عن الدراسة. أين يا حسين؟ كان في رب في البلاد جلست أحارب.
وأظرف الشخصيات عبدالله عبدان شيخ مشايخ الجنس الأسود، كما عرف نفسه في برقية للإمام، وشيخ مشائخ الحجرية في خبر أذاعه راديو صنعاء عن استقبالات السلال.. كان قد حمل إلى السلال دعمًا للثورة، تبرع به مشايخ الحجرية. لقد أغاظهم، فاجتمعوا لمعاقبته، واختصر العقاب بذكائه وقوة تأثيره على من حوله.
لو يستطيع عبدالرحمن بجاش استنفار ذاكرته واستخبار آخرين ممن عرفوا ذلك الخادم الذكي والظريف، وقدمه في رواية مستقلة، لصنع مادة لفيلم سينمائي هائل.
وهذان الكتابان “حافة إسحاق” و”لغلغي في صنعاء”، لا شك أنهما ينتظران سيناريست ومخرجًا لإنتاج مسلسل تلفزيوني بديع، بل إن عبدالرحمن نفسه يستطيع أن يجرب مهنة السيناريست، ذلك أن الحوارات الواردة فيهما تفصحان عن مهارة فائقة.
ولا يحاول عبدالرحمن أن يخفي عثراته أو يضفي على نفسه خصالًا ليست فيه، فهو ضعيف في الرياضيات، كما يرسب بثلاث مواد في إحدى سنوات الدراسة، لم يفسر أو يقل إن جزءًا كبيرًا من وقته ينسلق في العمل.
هو أيضًا يمشي بجانب الحيطة، ويتحاشى أية مشاجرة، بل إنه يذكر كلمة الخوف دون خوف. ولذلك رأينا من يبتزه ويأخذ مصروفه اليومي، ومن يضربه ومن يتهجم عليه، ويجيء زمن فينتقم منهم جميعًا، دون أن يخطط، وربما من غير أن يشعر بأنه يمارس الانتقام. لقد ساقتهم الأيام، وقابلهم بالصدف، فأيقظ ذاكراتهم، وسامحهم حينما وجدوا أنفسهم -هم النكرات- أمام الصحفي والكاتب المشهور. غير أنه لا يذكرهم من أجل التشفي، وإنما في سياق لا ينسى معه أن يقدمهم كرجال طيبين ومحترمين وأصحاب قلوب بيضاء… إلى آخر الصفات النبيلة التي يخلعها على الآخرين.
سرد هادئ وكلمات بسيطة، رقيقة وكشافة، ترتقي في موسكو ولينينجراد إلى لغة شعرية، رفيعة وباهرة. لعله جمال الطبيعة والمعمار والناس، مسرح البلشوي ومترو موسكو ومتحف أرميتاج. هذا وغيره رفع الخيال إلى قبة السماء، فجاء الكلام عذبًا شفيفًا ساحرًا.