رشيد سيف- عدن 

تكثر وتتعدد فصول المعاناة في اليمن، البلد الذي يمر بمنعرج شائك إنسانيا واقتصاديا وعسكريا لكنها تبدو أكثر قسوة في ذاكرة الفصل الأخير المتعلق بفئة الأطفال النازحين، وخاصة الأطفال دون سن الخامسة عشر.

تتسع جراح هؤلاء الأطفال النازحين في هوامش المدن والأرياف يوما بعد آخر باتساع شرخ الأزمة السياسية بين الفرقاء وحلفائهم الدوليين من جهة ومن أخرى بفعل الأزمة الاقتصادية بين صنعاء وعدن، الأمر الذي جعل مليونا و700 ألف طفل نازح مقطوعون عن الخدمات الأساسية، نصف مليون منهم لا يحصلون على تعليم رسمي بحسب إحصائية حديثة لمنظمة إنقاذ الطفولة الدولية.

ومع استمرار التصعيد العسكري بين طرفي النزاع أجبر خلال العام المنصرم نحو 115 ألف طفل على مغادرة منازلهم كخيار وحيد، لا سيما في مناطق مأرب والحديدة وحجة وتعز، فيما اضطر حوالي 25 ألف طفل وعائلاتهم على ترك مناطقهم في النصف الأول من العام الجاري بحسب تفاصيل منظمة إنقاذ الطفولة الدولية.

ويرزح هؤلاء الأطفال تحت وطأة الجوع والفقر وغياب الأمن حيث لا طعام ولا مياه نظيفة وتشير إنقاذ الطفولة إلى أن تسعة من كل عشرة أطفال في مخيمات النزوح لا يتمتعون بإمكانية الوصول الكافي إلى ضروريات العيش.

دمعة على الهامش

 يضطر الأغلبية الساحقة من الأطفال النازحين على العمل في مهن شاقة لا تتناسب مع أعمارهم، والبعض منهم يعمل في مهن يحتقرها المجتمع وينظر إليها بازدراء وسخرية، فيما يذهب بعضهم الآخر لممارسة التسول في الأسواق والأماكن العامة لتفادي جوع اللحظة وربما اليوم أو الحياة بطولها والعرض 

صفاء (12 عاما) نزحت وعائلتها من مدينة الحديدة غربي اليمن إلى عدن، لم تحظ بخيمة تحمي طفولتها وأحلامها من قسوة الحياة، توقفت عن الدراسة في الصف الرابع لكنها لم تتوقف عن البكاء تقول ببراءة وتلعثم “ابيع الفاين “المناديل” كل يوم للناس على السواحل، البعض يأخذه مني والبعض يعطيني ويرفض أخذ المنديل” 

تختار صفاء (اسم مستعار) وقت ما بعد الظهيرة لبيع المناديل نظرا لتجمع الناس في الأماكن العامة، ورغم أن أرباح حوالي 8 ساعات لم تكف لشراء وجبة واحدة لها وأسرتها إلا إنها مازالت تجوب سواحل ومنتزهات المدينة كل يوم، وفي كل يوم تعود بحدود العاشرة مساء، في حين يكون أقرانها من أطفال المدينة قد انهوا واجباتهم المدرسية أو ناموا أمام شاشة التلفاز بطمأنينة.

وليست صفاء إلا واحدة من مئات الأطفال الذين أرغمتهم الظروف العصية التي خلفتها الحرب على العمل في بيع المناديل أو الأعمال الأخرى ولكم تتشابه أقدارهم ومعاناتهم رغم اختلاف أعمارهم وأمانيهم.

ويواجه الأطفال مخاطر الأمراض الفتاكة والجوع والتشرد، خلاف مخاطر الغارات الجوية والألغام والتجنيد وبحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسيف فإن حوالي مليوني طفل يعانون من سوء التغذية الحاد في بلد صنف ضمن أسوأ البلدان للأطفال في العالم وتنعكس هذه الأحداث سلبا على حياة الطفل النازح حيث يصاحبها تأثيرات سلبية على المدى الطويل.

 وفي هذا السياق يتحدث ماهر شير علي، باحث اجتماعي “الأطفال هم الأكثر تضررا في حركة النزوح الداخلي والفئة الضعيفة أمام التحديات التي تعيشها البلاد، يفقدون خلال النزوح الأمن والصحة والتعليم وأحلامهم ويضيف: واحدة من تأثيرات النزوح على الأطفال مستقبلا تكمن في صعوبة اندماجهم مع المجتمع ومعاناتهم المتمثلة في غياب التعليم والجوع والتشرد يجعل منهم أشخاص ذوي اعتبارات هشة ويضعف مكانتهم الاجتماعية ويهز شخصيتهم.

ويواصل علي: غياب الأساسيات اللازمة للحياة تشجع هؤلاء الأطفال على ممارسة الجريمة والعنف، وتساعدهم على التخلي عن القيم والعادات والتقاليد التي من المفترض أن تكبر معهم.

وتسببت الحرب بارتفاع حدة الفقر لمستوى حرج في اليمن، إذ تشير أحدث البيانات إلى أن حوالي نصف السكان كانوا في 2014 يعيشون تحت خط الفقر وفي الوقت الراهن زاد معدل الفقر على الصعيد الوطني حوالي 80 في المئة ومن بين كل 10 أطفال يعيش أكثر من 8 منهم لدى أسر ليس لديها دخل كاف بحسب اليونيسف، الأمر الذي أجبر الكثير منهم على ممارسة التسول بطرق شتى وقاسية.

 وفي هذا الاتجاه يشير علي: “التسول في الشوارع واستعطاف الاخرين يجعل الطفل عرضة للأذى ويكسبهم طباع الشارع غير الأخلاقية مثل المخدرات والجريمة وهذا خلل مستقبلي كبير صعب تجاوزه وينعكس هذا التأثير على استقرار المجتمع”.

قنبلة موقوتة

ألقت الحرب بظلالها على حياة هؤلاء الأطفال ومازالت تعمق جراحهم حتى اليوم، حيث أصبحت حياة الملايين منهم في خطر كبير مع دنو البلد أكثر من حافة المجاعة، وتتعاظم المخاوف من انتاج جيل مشتت بلا تعليم ولا حقوق عاش حوالي عقد من الزمن ظروف عصيبة مخلوطة بالانتهاكات والموت والتشرد، إذ تشير تقديرات اليونيسف أن هناك أكثر من 12 مليون طفل بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.

ومع ارتفاع معدلات حالة الجهل يشكل هؤلاء الأطفال تحديات على المستوى الاجتماعي والأمني والثقافي، تحديا تتزايد مؤشرات سلبيته على المدى القصير والطويل على أنفسهم والمجتمع في آن، وتقول تقارير اليونيسف أن حوالي مليوني طفل خارج المدارس بسبب الأوضاع التي تعيشها اليمن، فيما يعاني أكثر من 523 ألف طفل نازح في سن الدراسة من صعوبة الحصول على التعليم لأسباب عدة بحسب التقرير. 

تعلق صابرين اليافعي، استاذة لغة عربية بجامعة عدن ” توقف الأطفال عن التعليم يعمق مخاطر عمالتهم وتجنيدهم وشعورهم بأنهم أعضاء غير فاعلين بالمجتمع سيدفعهم في الاتجاه السلبي، وتواصل ” سيواجه هؤلاء الأطفال صعوبة في الحصول على فرص عمل مستقبلا وغياب التنشئة الاجتماعية ستجعلهم وقود لحرب أخرى أو تطرف أو عصابات فوضى وخاصة البعض ممن فقدوا ذويهم بسبب العنف. 

مآسي

أكرم  (اسم مستعار) دون العاشرة يعمل على أرصفة الشوارع ومعه ميزان ليكسب قوت يومه من وزن الاشخاص المارين في الشارع وبسبب ارتفاع درجة الحرارة، الكثير من المارة في الشارع المزدحم  لا يعيرون الوزن أهمية، هكذا  يقف أكرم طوال اليوم بظل حائط لمدرسة تحتوى المئات ممن هم في عمره دون جدوى ويتحمل أكرم مشقة نفسه فيما تعمل شقيقته وشقيقه الأكبر في مسح مركبات السيارات بجولة قريبة منه شرق المدينة، الأغلبية من الناس يفهم هذا النوع من العمل الممزوج ببراءة واستعطاف هؤلاء الصغار على أنه طريقة أخرى للتسول، ولا أحد يفهم مواجع أكرم والحياة التي يعيشها وأشقائه  منذ أجبرتهم الحرب على ترك مدرستهم ومنزلهم في محافظة حجة شمال غرب صنعاء.

أشجان الفضلي، اخصائية دعم نفسي اجتماعي تقول: يحمل الأطفال النازحين ذكريات مؤلمة وخاصة إذا شهد مواقف دموية جراء النزوح، هذه الأحداث تضاعف حالة الرعب والخوف لديهم بعد الصدمة.

وتضيف: ويبدأ الطفل يشعر بالضياع وخاصة في ظل البعد عن ذكرياتهم ومناطقهم أي الشعور بعدم الانتماء وعدم الشعور بالتجذر نوع آخر من الخوف وفقدان الأمان النفسي.

وترى الفضلي أن الطفل يتأثر نفسيا مع الشعور بوصمة العار من كلمة نازح واحساسه بأنه الضحية ثم تعرضه للاضطهاد بالإضافة إلى موجة العنصرية التي من الممكن أن يتعرض لها وفقدان الطفل لأصدقائه وتغير بيئته بطريقة قاسية هذا بحد ذاته له تأثير على المدى الطويل أسريا ومجتمعيا وخاصة إذا واجه الطفل صعوبة في الاندماج بالبيئة التي انتقل اليها.

وتؤكد مها محسن، خبيرة اجتماعية بأن التأثيرات على الطفل تبدأ من كلمة نازح ثم حرمانه من التفاعلات الاجتماعية التي تأقلم معها، وتضيف: النبذ العنصري الذي يواجه الطفل يقلل من تفاعله ويهزمه من الداخل بالإضافة إلى حرمانه من التعليم وعدم تقبله في المدارس لكونه نازح وبهذا يساق إلى كابوس عمالة الأطفال وفيها يتعرض للانتهاكات والإساءات والتي تصنع منه وحش مستقبلي ومعضلة حقيقية.

ويواجه جيل كامل من الأطفال انتهاكات جسيمة تحفر في ذاكرتهم فصولا من الويل لغاية أن محوها يبدو صعبا ومستحيلا في المستقبل القريب وربما البعيد.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع مركز الدراسات والإعلام الإقتصادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.