الحديدة- كمال الشاوش

لم تمنع الحرب الفن كمشترك جامع لا صلة له بتحيزات الأطراف المتصارعة من الاستمرار في بث معاني السلام.

حيث برزت إلى السطح خلال السنوات الأخيرة، مواهب شابة في مجال الغناء والموسيقى، لم تكن معروفة من قبل، بعد أن أصبح وصولها إلى الجمهور متاحًا عن طريق المنصات التفاعلية، وصار لها حضورٌ لافت في الساحة الفنية، على نحوٍ يبرهن ظمأ الجمهور إلى أصواتٍ لا تدعو إلى الكراهية والموت التي طفح بها المشهد طيلة ست سنوات من الصراع، وليس أبلغ صوتًا من الغناء والموسيقى في الردِّ على هدير القصف ولعلعة الرصاص، كما يقول المؤيدون لهذا المنحى.  

اللافت في الحراك الفني الذي انتعش خلال السنوات الماضية، اتسم في معظمه بملامح تجديدية في ما يتعلق باللحن والموسيقى، على غير ما كان سائدًا فيما قبل، ولعل ذلك هو ما أعطى تلك التجارب زخمًا وانتشارًا إلى جانب أن قدرًا كبيرًا من المهتمين يرونه نوعًا من الاحتجاج ضد السلطة المتشددة التي تحاول فرض وصاية على الذوق العام وتصرفه عن مباهج الحياة، إمعانًا في تطويعه لقبول الأفكار المتطرفة، حد قول الفنان حسين السراء. 

الهروب إلى الفن 

قبل عامين من الآن، كانت الفنانة هاجر النعمان (22 عامًا)، أمام تجربتها الجماهيرية الأولى، التي حققت لها نجاحًا لم تكن تتخيله، حين بدأت تشق مشوارها الفني بأغنية ” اشتي اسافر بلاد ما تعرف الا الحب”، وهي اغنية تراثية غنَّاها الفنان عبد الباسط عبسي، إلا أنها أدخلت إضافات على النمط الموسيقي للأغنية التي كانت تؤدى بآلة العود، بإضافة آلات جديدة مثل الجيتار، إلى جانب التجديد في اللحن، الأمر الذي قوبل باستحسان المتابعين، وحصد ملايين المشاهدات على منصة يوتيوب. 

 بالطريقة نفسها، حاول الفنان “عبد الله آل سهل” إعادة إحياء الاغنية التهامية، حين أطل مطلع مارس 2021، بأغنية “قطر امزعفران”، وهي واحدة من الأغاني التهامية التي قام بإنتاجها، مضيفًا إليها الطبل والمزمار، واللافت أن هذا اللون من الغناء التهامي، استحوذ على ذائقة الجمهور _ولاسيما من فئة الشباب_ بشكل لافت، حيث حصدت إحدى أغانيه الجديدة أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة خلال أيام. 

هذه الطفرة الفنية التي تشكلت في واقع الحرب في اليمن، رغم ضعف الإمكانيات وغياب التشجيع الرسمي، تبدو من وجهة نظر الدكتور محمد الشميري، رئيس نادي الحديدة للقراءة، “شكل من أشكال الحنين، إلى فترة ما قبل الحرب، حين كان الواقع أكثر تسامحًا مع الفن والابداع والشعر، بعكس ما هو حاصل الان، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى تراجع الفن، بل على العكس، أظهر أن لدى الشباب حماسًا منقطع النظير للتمسك بالحياة “. 

تمسكٌ بالحياة وحنين إلى الذات

تصف الفنانة هاجر النعمان التراث الغنائي اليمني بكونه ” كنز وهوية “، مؤكدة أن الفن والموسيقى رسالة سلام ومحبة، تمثل بالنسبة إليها “قوة حريرية لنبذ العنف والدعوة الى السلام”، حد قولها. 

في حين لا يُقر الدكتور الشميري، بصواب الرأي القائل إن التجديد يعد تشويهًا للأغنية التراثية: “أرى أن التجديد في اختيار كلمات أغانٍ معينة وتجديد لحنها أحيانا ظاهرة إيجابية، ولا أتفق مع الرأي القائل إن تلك الطريقة تفسد الأغنية التراثية، يجب أن نحترم التجديد، ذلك أن اللحن ليس مقدسًا ولا يسمح الاقتراب منه أو التعديل عليه، لكن مع ذلك، يجب أن نفرق بين التجديد المستبصر القائم على أسس فنية، والتجديد الاعتباطي الذي بالفعل يشوه الأغنية ويفتح المجال لعبث من لا ينتمون للحقل الفني”. 

ويؤكد الشميري، على أهمية استمرار الحراك الفني في اليمن، لخلق رسالة جميلة يمكن ان تضاعف الرصيد الجمالي في الذاكرة الجمعية، كما يمكن أن تكون دليلا على أن الفن هو ملاذًا في اللحظات التي يعلو فيها صوت الحرب، مضيفًا: “من يتابع سيجد أن مختلف الفنون الإبداعية التي كانت على وشك الاختفاء عادت على أيدي الشباب، لذلك لا بد من تشجيعهم لتستمر ثقافة الجمال”. 

شعورٌ بالانتماء 

تحتل الأغاني التراثية التي تكتب كلماتها بالشعر الحميني، حيزًا كبيرًا في الوجدان الشعبي، كجزء لا ينفصم من الفلكلور الوشيج بنزعة الانتماء الوطني الجامع، وملمحًا من ملامح الوحدة البينية، فكثيرًا ما ارتبطت الأغاني التراثية في الذاكرة الشعبية بالحياة والحب والبن وملوحة عرق الفلاح وانتمائه للأرض وخضرة المواسم وكل ما له علاقة بالحياة البسيطة للإنسان اليمني المسالم بطبيعته، ولعل ذلك كان سببًا في ميل المغتربين اليمنيين إلى إقامة جلسات سمر بين فترة وأخرى لسماع الأغاني التراثية اليمنية، كلما جاش بهم الحنين إلى الوطن. 

وبحسب الشميري، فإن الأغاني الشعبية تحمل في طياتها معانٍ جميلة مؤثرة، لا تخلو من بُعدٍ روحي، أشبه تأثيرًا بتمارين “اليوجا”، مبينًا أن “الحرب قسمت البلاد إلى تمايزات جغرافية متنافرة، لكن وحدها الأغنية اليمنية استطاعت لملمة ذلك الشتات “، حد وصفه. 

ولعل تلك الصلة الروحية بين الفن والانسان اليمني، كانت حافزًا للفنانين الشباب الذين وجدوا في تراثهم حقلا خصبًا يمكن إحياؤه وتشذيب غِراسه بمواهب جديدة، قادرة على ابتكار أشكالٍ تتناسب مع المزاج العام دون أن تجافي الأصيل أو تجنح إلى البديل، كتعويضٍ رمزي لما سلبته الحرب من بهجة البلاد. 

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع مركز الدراسات والإعلام الإقتصادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.