تعز – رانيا عبدالله:
من وسط الحواري القديمة وأزقتها في مدينة تعز (جنوبي غرب اليمن)، تنبعث رائحة الخبز (الخمير بالحبة السوداء) من مخبز السبعينية مسك سيف، التي قضت سنوات طويلة بالعمل فيه.
وتشرف مسك على عمال المخبز بشكل مباشر، لتتجه بعد ذلك إلى السوق حاملة بعضًا من الخبز لبيعه في المدينة. وتقول: “يأتي الناس لشراء الخبز من مخبري، وأنا أقوم بأخذ جزء منه لبيعه وسط السوق”، وتضيف: “لقد اعتدت يوميًا على العمل، وأشعر بالتعب كلما جلست في المنزل”.
وفي العام 1995، بدأت مسك العمل في صناعة الفطير (خبز الذرة الصفراء) أولًا بالمنزل، ثم تقوم ببيعها في السوق لمساعدة والدتها وإعانتها في تربية إخوانها، كما تروي قائلة: “كنت أضع أحجارًا تحت قدمي حتى أصل لتنور الحطب الذي كنا نخبز فيه الفطير، وبعد الانتهاء أقوم بأخذه للسوق لبيعه هناك”.
وعندما توفيت والدتها تحملت تربية إخوانها بمفردها، حتى صاروا قادرين على تحمل أعباء الحياة. وبعد وفاة شقيقتها مخلفة 9 أطفال، تحملت مسك تربيتهم، كما تقول، مضيفة: “نذرت عمري لتربية أبناء أختي، فهم أولادي الذين لم أنجبهم، وقمت بتربيتهم، وعلمتهم حتى أكملوا تعليمهم الجامعي، وأصبح منهم الضابط والطبيب والمعلم، والآن أفتخر بهم، وهذا يكفيني من الدنيا”.
وبالرغم من إلحاح أولاد أختها عليها لترك بيع الخبز لترتاح من عناء العمل، لكنها ترفض ذلك قائله: “من تعود على العمل تتعبه الراحة”.
تحسين الظروف الاقتصادية
وتعمل المرأة اليمنية جاهدة لفتح نافذة للدخل المادي، مما مكنها من الإسهام في تحسين المستوى الاقتصادي والمعيشي لأسرتها، وتقديم المساعدة للغير من الفئات الأشد فقرًا في المجتمع، حد قول الدكتور عبدالسلام الحكيمي، أستاذ علم الاجتماع التنموي بجامعة تعز.
ويضيف الحكيمي: “الدور الذي قامت به الحجة مسك من خلال عملها في صناعة الخبز، وتكفلها بأفراد اسرتها، جاء من شعورها بضرورة الإسهام في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأفراد أسرتها، وهناك الكثير أمثالها من النساء اليمنيات ممن خرجن للعمل، وأسهمن في العمل التنموي في المجتمع، بخاصة في الآونة الأخيرة، بعد أن فقد الكثير أعمالهم”.
ويتابع: “عانت المرأة اليمنية، خلال الفترة الماضية، من الإقصاء والتهميش لأدوارها الإنتاجية والتنموية التي كانت تقوم بها ولا يتم احتسابها ضمن الناتج القومي للدولة، بالرغم من أنها كانت تعمل في الزراعة والأعمال اليدوية والحرفية ومختلف المهن وغيرها إلى جانب اهتمامها بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد والطبخ”.
ويؤكد أن استقلال المرأة ماديًا يساعدها على القيام بعدة أدوار تنموية وسياسية، حتى إن المرأة غير المتعلمة تمكنت من العمل خارج المنزل بأجر، بعد أن كانت معظم الأعمال التي تقوم بها سواء في الزراعة أو الرعي وغيرها، بدون أجر، كونها تعمل مع الأسرة، مما جعلها تابعة اقتصاديًا.
تجاوز الصعوبات
وتعاني كثير من النساء العاملات في بيع الخبز بالأسواق من نظرة المجتمع القاصرة، لكن مسك كانت نموذجًا للمرأة القوية التي استطاعت أن تثبت ذاتها بكل ثقة واقتدار، وكسبت احترام وتقدير الجميع طوال سنوات عملها. وقد اعتاد أهالي حارة الميدان في تعز على شراء الخبز بالحبة السوداء من فرن الحجة مسك.
ويقول أحمد طالب، أحد سكان الحي: “منذ سنوات طويلة ونحن نشتري الخبز من فرن الحجة مسك، واعتدنا عليه على مائدة الغداء”.
وتشكو مسك كغيرها من بائعات الخبز، من ارتفاع تكاليف إعداد الخبز، كارتفاع سعر الدقيق والحطب وفاتورة الكهرباء التجارية، وتقول: “لم أشهد ارتفاعًا للأسعار طوال فترة عملي في السنوات الماضية، مثل هذه الأيام، لذا اضطررت لرفع سعر الخبز بالمعقول، لأني أدرك حجم المعاناة التي يعانيها الناس من ارتفاع سعر الخبز”.
مسك وغيرها الكثير من النساء العاملات نماذج ملهمة، فقد رسمن طريق الكفاح بأيديهن، ولم يقفن عاجزات أمام الظروف المعيشية، وبدأن مشاريعهن الخاصة التي تكللت بالنجاح.